حديث معاذ بن جبل والبناء الفكري
حديث معاذ بن جبل والبناء الفكري

حديث معاذ بن جبل والبناء الفكري

وصف معاذ بن جبل، رضي الله عنه، ذكرى حين أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، وسأله النبي: “ماذا ستفعل إذا احتجت للحكم في أمر ما؟” أجاب معاذ: “سأحكم بما ورد في كتاب الله.” فقال النبي: “وإن لم تجد حكمًا في كتاب الله؟” فرد معاذ: “أتبع سنة رسول الله.” فسأله النبي: “وإن لم تجد حكمًا في السنة؟” فقال معاذ: “أبذل جهدي في الاجتهاد برأيي.” عندها ضرب النبي صدر معاذ وعبر عن شكره لله الذي هدى رسول رسول الله إلى ما يرضي النبي. هذه الرواية أخرجها الإمام أحمد بن حنبل في مسنده وأخرون كأبي داود والترمذي، وللحديث مزيد من الشروحات والتخريجات في مؤلفات أخرى وقد أكد بعض العلماء قبول الأمة لهذا الحديث رغم وجود ضعف في إسناده.

تم استقبال هذا الحديث الذي يرويه معاذ بن جبل رضي الله عنه من قبل الجماعة الإسلامية بالترحاب، وذلك على الرغم من وجود بعض الشوائب في سلسلة الرواة. ومع ذلك، فإن الاستقبال الإيجابي من الأمة يعالج هذه النقائص ويجعل الحديث مقبولاً للاستناد إليه في الشؤون الدينية. إنه يشكل حجر الزاوية في ميدان أصول الفقه لدى الخبراء، الذين يستخدمونه كدليل في العديد من الحالات، خصوصًا في دراسة الأدلة الشرعية وترتيبها وكيفية التفضيل بينها عند التضارب، وتقديم ما يستحق التقديم وتأخير ما يستحق التأخير. كما يعتبر هذا الحديث من المتون التي تستهل بها مسألة القياس، مما يجعله دليلاً قويًا على الاجتهاد، والذي يعتبر القياس من أرقى مراتبه، انطلاقاً من أنه يعتمد على مراحل متعددة: تبدأ بتحديد العلة الملائمة التي استند إليها الحكم الأصلي، ثم التحقق من تواجد هذه العلة في الفرع ليُطبق عليه نفس الحكم كما في الأصل. ولهذه الأسباب، يُعد القياس من الطرق الجوهرية لتوسيع دائرة الشريعة وجعلها قادرة على استيعاب الأحداث المستجدة وإظهار مرونتها وقدرتها على التكيف مع المتغيرات المختلفة في مختلف الأزمان والأماكن.

على الرغم من أن الغاية من هذا المقال ليست لتحليل حديث معاذ بن جبل من منظور أصولي، إلا أن ما جاء في الفقرة السابقة يمهد طريقًا ضروريًا للدخول في غرض المقال الرئيسي وهو تأسيس الوعي الفكري للأفراد والمجتمعات استنادًا إلى ذلك الحديث النبوي العظيم. ويُقصد بالوعي الفكري ذلك النسق من الأفكار والمعاني الناظمة والموجهة التي تُشكِّل شخصية الأفراد. ومن خلال هذا التعريف يتضح أن الوعي الفكري يُحدّد سلوك الأفراد المعرفي تجاه مختلف المواقف سواءً بالقبول أو الرفض أو النقد أو حتى السعي لتعزيز هذا الوعي وتقويته وتثبيت أركانه. وهكذا يُسهم هذا الوعي الفكري في تشكيل أساس للمجتمعات والأمم، حيث يُعتبر الأفراد العنصر الأساسي والمحوري فيها. وقد تجلى هذا البناء الفكري في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه كما يلي:

هل نعيش في عصرٍ “لا يُعرَفُ فيه الصوم ولا الصلاة ولا النُسك”؟

تتشابك الأفكار وتتلاحم، وتساند بعضها بعضاً حتى تصبح كياناً واحداً مترابطاً كالصف المُحكم والمنزل الذي يعتمد سقفه على جدرانه، وتلك الجدران على أساس قوي وثابت. وعلى الرغم من أنها تُشكّل وحدة واحدة، فإن تكوينها لا يحدث دفعة واحدة، بل يُبدأ من الأصول أو الأساس الرئيسي، الذي يُعطى الأولوية ويُمنح الوقت الكافي ليكون متيناً يتحمل التحديات من تشويه أو هدم أو محو. ويستطيع الوقوف صلباً أمام الأزمات العابرة والطويلة الأمد، ناشئة عن تفاعل الأفكار والمواقف والثوابت والمتغيرات. ثم يُبنى على هذا الأساس العريق بقية الأصول التي تعتمد عليه وتتكامل معاً لخلق البناء الفكري للأفراد والمجتمعات، الذي يميزهم ويمنحهم التميز والقدرة على حماية أفراده وإرشادهم في مواجهة الاختلافات البسيطة والعميقة. وما يضمن التعامل الإيجابي مع تلك الاختلافات هو الوضوح في تحديد الأصول والأسس التي تُشكل البناء الفكري، حيث يُعطى الأصل الأساسي الأسبقية والأهمية والضوابط دون إلغاء البقية أو إهمالها، بل يُفسح المجال لها لتُكمّل وتتآلف معه ليُصبح البناء الفكري مُتكاملاً ومُتناغماً. وهذا ما يُوضحه حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه، الذي أعطى القرآن الأولوية في الحكم على الأحداث، ثم أتبعه بالسنة النبوية التي تُفصّل وتؤكد ما في القرآن، ثم يأتي الاجتهاد عند عدم وجود نص شرعي، بشرط ألا يُقدم الاجتهاد على النص وألا يُمنع عند عدم وجوده تحت مبرر حماية النص ومكانته.

دور الأفراد في إقامة وتنظيم نظام الفكر الذي يشكل مرجعية للأشخاص والمجتمعات ويمثل نقطة انطلاقهم هو أمر ذو أهمية كبرى، حتى لو كان هذا الدور يتضمن تقديم توضيحات واستخلاصات أو تعديل للأمور التي كانت صحيحة أو تصويب لما كان خاطئًا في نظرهم. النبي، صلى الله عليه وسلم، قام بسؤال معاذ بن جبل عن كيفية اتخاذ القرارات والأحكام عندما تواجهه مسألة جديدة أو حادثة طارئة تحتاج إلى بيان، فأجاب معاذ رضي الله عنه بأنه سيعود أولاً إلى القرآن الكريم لاستخراج الحكم منه. فإذا لم يجد الجواب هناك، أخبره النبي بسؤاله: فإن لم تجده في الكتاب فماذا؟ فأشار إلى أنه سيتبع السنة النبوية. عندما لم يجد في السنة أيضًا، أكد معاذ أنه يقوم بالاجتهاد ويبذل جهده لمعرفة الحكم. هذه الطريقة التي نهجها النبي صلى الله عليه وسلم مع معاذ تعتبر تمكينًا للأفراد المؤهلين من توضيح أسس الفكر التي يستند إليها الناس والمجتمعات، وتجعلهم يشعرون بوجود صلة لهم بالمساهمة في هذا الإطار الفكري الذي يحدد مسار الأفراد في المجتمع إزاء القضايا الحياتية والفكرية والسلوكية والعاطفية والتربوية، سواء أكان ذلك بشكل إيجابي أم سلبي، والذي يؤدي في النهاية إلى تشكيل رؤية المجتمع وثقافته وآماله وطموحاته. التركيب الفكري الذي يسمح بمساهمات فردية حتى ولو كانت بسيطة يجعل الأفراد متحمسين للدفاع عن قيمه ويفخرون به ويتمسكون به ويسعون لتعزيزه وتثبيته في نفوس الناس والمجتمعات، والوقوف كجبهة واحدة في وجه كل ما يتعارض مع هذه الأفكار أو يهددها، وهو ما يعرف بزرع الانتماء الفكري لدى الأفراد عبر مشاركتهم وتفاعلهم الإيجابي العقلاني. كان من الممكن للنبي صلى الله عليه وسلم أن يشرح للصحابي الكريم هذه الخطوات الواضحة في التعامل مع الأمور الطارئة التي قد تعترضه، وكان ذلك سيكون توفيرًا للوقت والجهد، وكان الصحابي سيستلم هذه التوجيهات بكل استعداد ورغبة في الالتزام بها في كلماتها ومقاصدها. لكن النبي المربي اللطيف فضّل أن يشرك معاذ في اكتشاف هذا البناء الفكري بنفسه، مما يحمي الأفراد والمجتمعات من الآثار السلبية والمفاسد الكبيرة التي قد تنتج عن شعور الناس بالانفصال عن هذا النظام الفكري لأنهم لم يساهموا فيه أو يشاركوا في تكوينه، بل فُرض عليهم قسرًا، ولو كان في ذلك نفعًا أو فائدة لهم؛ مما قد يؤثر سلبًا على حماسهم تجاه الانخراط الإيجابي معه رغم أنه يعتبر المرجع الذي يعود إليه الافراد والمجتمعات.

جهود بذل في النشر والترويج لهذه المعالم الفكرية المتنوعة عبر أساليب متعددة ومسارات متباينة تعمل معًا لتعزيز حضور هذه الركائز الفكرية في المجتمع وفي أذهان الأشخاص. يجب أن لا يقع الأفراد ضحية لتأثير الأفكار المدمرة أو الشاذة أو النقيضة. لا ريب في أن معاذ بن جبل وبقية الصحابة الأجلاء، تقبل الله منهم أجمعين، قد استلهموا تلك القواعد الفكرية من الرسول، صلى الله عليه وسلم، في مناسبات شتى ومواقف متعددة، وعبر طرق شتى من الدعوة والتمثيل والتفصيل، مستخدمين مزيجًا من الدعاء للخير والتحذير من الشر، لتستقر هذه القواعد عندهم بوضوح وتأكيد، متجذرة بأبعادها وفصولها وأساسياتها ومنطقها. ومتى ما ألمت الحاجة وارتأى النبي، صلى الله عليه وسلم، أن يبعث أحد رفاقه الأفاضل كممثل له إلى مكان بعيد، رغم المسافات الشاسعة والتأخير في التواصل والمعاينات، حيث يكون من المحتمل مواجهة مصاعب وأحداث تتطلب الفصل الفوري فيها ولا تحتمل التأخير، أراد رسول الله أن يتحقق من استقرار وثبات هذه القواعد في ذهن المبعوث وانتظام بنائها لديه، ليطمئن إلى كونه سيسير وفقاً للخُطى السليمة التي تهدف إلى بلوغ الحق والصواب وتجنب الخطأ والانحراف والزلل قدر المستطاع. وبالتالي فإن الإجابة الصريحة من معاذ بن جبل، رضوان الله عليه، كانت تشهد على إدراكه التام لأسس العقيدة الإسلامية واستقرارها في نفسه انسجاماً لا يتأثر بالأفكار المخالفة لمبادئها وقواعدها، أو بالأفكار اللامعة والمفاهيم المضلِّلة، أو حتى تحت وطأة ضغط العامة وتيار الأفكار السائدة في المكان الذي يقصده والتي قد تتعارض مع ما ترسخ وتثبت لديه.

تعدّ البُنية الذهنية بُنية مرنة تتسم بالنشاط : قادرة على استقبال التحولات والأحداث الطارئة والمسائل الجديدة ما لم تتصادم مع القواعد الأساسية لهذه البُنية ومبادئها الثابتة دون التصادي أو الإخلال بها. تنخرط هذه البُنية مع هذه الأمور بنشاط وتعمل على دمجها ضمن إطارها بعد تهذيب ما يستلزم تهذيبه وتصفية ما يحتاج إلى تصفية، مرفوضاً ما ليس مناسباً للقبول؛ وذلك لأن طبيعة الحياة قائمة على التغيير وتتجدد الأحداث بشكل دائم، والأفكار والظروف والبيئات بطبعها ليست ثابتة ولا مستقرة، بل تتأثر غالباً بالتغيير والتباين والتجديد. هذا هو من ضروريات العقل البشري والمجتمعات الإنسانية، لذا يجدر بالبُنية الذهنية أن تحتوي هذه العناصر دون معارضتها وأن تؤكد عليها دون إنكارها وأن تعترف بها وليس إنكار وجودها. وهذا يعتبر علامة على قوة البُنية الذهنية لا ضعفها، وعلى استقرارها لا هشاشتها، وعلى حيويتها لا جمودها، وعلى تميزها لا نقصانها. وكلما كانت الأمور الجديدة تتوافق ببساطة مع أصول البُنية الذهنية، كان ذلك برهاناً على نشاط هذه البُنية وملاءمتها لأفراد المجتمع. ويتضح ذلك جلياً من سرد حديث معاذ رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وسلم عندما أبلغه عن عزمه على بذل جهد في اجتهاده للوصول إلى الحكم بقدر طاقته عندما لا يجد في الكتاب أو السنة. هذا يظهر أن الشريعة لم تذكر حكم كل ما يحدث في الحياة أو ما سيحدث من أحداث ومسائل: كل حادثة على حدة وكل مسألة على حدة. لكنها ذكرت الطرق التي تساعد على الوصول إلى الحكم إذا حدثت، وهو ما يُعَدّ ضمن حدود الاجتهاد وطرقه. ومعنى ذلك أن الشريعة تضمن المستجدات وتقبلها وتؤكد عليها ما دامت لا تخالف النصوص الشرعية وقواعدها وأهدافها، وهذا ينطبق أيضًا على البُنية الذهنية التي تستند إلى مبادئ وأسس تمكّنها من استيعاب التحديثات والتغيرات طالما أنها لا تتعارض مع هذه المبادئ والأسس.

هذه النظرية الفكرية تتيح للأفراد ارتكاب الأخطاء والقيام بالتجارب دون أن تتم محاسبتهم على ذلك، طالما أن الشخص الذي ينتمي إلى هذا النظام الفكري قد بذل جهده وطاقاته للتكيّف مع المواقف والحوادث التي يواجهها. إذا كانت محاولاته حقيقية، حتى لو انتهت بخطأ، فلا يتم تحميله مسؤولية ذلك ولا مقاضاته ولا التنديد به، وإنما يُشكر على تصرفه. يُقدّر الجهد المبذول في محاولة تطبيق المبادئ الفكرية الخاصة به على التباينات والقضايا الجديدة في المجتمع، وذلك بقصد الوصول إلى الصواب. وعلى الرغم من الأخطاء، يجب أن لا يُحرم الشخص من فرصة المحاولة مجددًا. ويعكس ذلك ما قاله معاذ بن جبل رضي الله عنه، إذ كان سيعمل على استنباط الأحكام في حال غياب النص القاطع، معترفًا بإمكانية الوقوع في الصواب والخطأ، وقد حثه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك وبارك مسعاه.

يسعد هذا البنيان الذهني بالذين يفهمون جوهره وأركانه ويسيرون وفق تعاليمه، فضلاً عن تطبيق تلك المبادئ في جميع جوانب حياتهم وأفكارهم، مما يجعلها محورية وفعّالة في مسارهم. إنهم يتفاعلون بشكل إيجابي مع هذا التركيب الفكري من حيث المعرفة والتنفيذ، والفهم والعمل، والإدراك والالهام، بداية ونهاية. ومن الضروري تشجيع هؤلاء الأفراد ودعمهم ليزيدوا من فهمهم وتحسين أفكارهم وترسيخها وزيادة إنتاجيتهم الإيجابية. يجب على هذا البنيان الفكري أن يضمن وجود مبدعين يدافعون عنه ويعرضون مزاياه، بينما يردون على تحريف المخطئين وتفسير الباطلين لكي يظل نقيًا وصافيًا. ويتعين عليه كذلك أن يضع هؤلاء المبدعين في المكانة التي يستحقونها والمنزلة التي تعكس تقدير الناس لهم كأفراد وكمجموعات. وهذا ما يبرز من خلال ما قام به النبي صلى الله عليه وسلم مع معاذ بن جبل رضي الله عنه عندما استوعب الأخير المنهج الصحيح في استنباط الأحكام والتطبيق الدقيق لهذا المنهج. فقد بدا رسول الله صلى الله عليه وسلم مسرورًا ومبتهجًا بذلك وظهرت بوضوح في أقواله وأفعاله، حيث ضمّد صلى الله عليه وسلم صدر معاذ بالثناء والمديح، وأتبع هذا الفعل بقوله: “الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله”، فتكامل بذلك فعله وقوله في التعبير عن التقدير لمن يتمسك بالمنهج السليم والعمل على تحقيقه فعليًا.

باختصار، يسلط هذا الحديث المبجل الضوء على أهمية تنمية وتقويم التفكير السليم عند الأشخاص، وضرورة التحقق من نقائه وعدم تعرضه للتحريف أو الانزلاق عن مساره الصحيح عند تنزيله على أرض الواقع، ومنحهم الفرصة كي يسهموا بشكل إيجابي في رسم ملامح هذا الإطار الفكري وفقاً لجهودهم الشخصية ومقدراتهم.